مفارقات غريبة و صادمة نعيشها بدهشة, نحاول مُستنكرين استيعابها و فك رموزها لكننا نقف عاجزين متسائلين و حائرين ننتظر لعل الزمن يأتينا بالخلاص, سنين طويلة مرت و نحن نُهمش كل طاقات البلاد و عقوله النيّرة و أبنائه البررة من علماء ورياضيين و مخترعين و أدباء و مبدعين, ندعم الزوار و نُكرمهم و ننحني كي يمروا و يفرحوا و يستمتعوا و يستفيدوا و يرحلوا, فيما يقف مبدعي هذا الوطن الحقيقيين يتفرجون و يُنددون و يضربون كفا بكف في انتظار الفرج الذي لم يأتي بعد رغم مرور كل هاته السنين.
فقد تغيرت الكثير من الأشياء من حولنا لكن عقدة الأجنبي لازالت تنخر عقولنا و ألسنتنا, ذاك الآخر الرائع المتميز القادم من الشرق أو الغرب مهما كان تافها ورخيصا, فيما نُصر على تغييب طاقاتنا و احتقار لغتنا و الانتقاص من قدر فنانينا و مبدعينا و مفكرينا و فلاسفتنا بعناد شديد و إصرار لا تفسير له و تجاهل صارخ و عدوانية مجانية.
لقد تحمل الفنانون الحقيقيون – وليس المرتزقة و المهرجون- وضعا لا يطاق لسنوات, اسْتُغلوا بدناءة و تُركوا على رف النسيان, يُنفض عنهم الغبار من مناسبة عابرة لأخرى, وبعد نضال و احتجاج و تذمر أخرجوا من دهاليز الهامش ووضعوا دمى و كراكيز لتأثيث المهرجانات الكبرى و حفلات النجوم اللامعة القادمة من وراء البحار, وهم يحاولون رغم كل أشكال الحصار و التضييق و التمييع أن يوصلوا صوت الفن المغربي الأصيل الجريح بشعره وزجله و ألحانه و مواويله, وهم يبتسمون ملء الأفواه رغم أن دموعهم و جراحهم مفتوحة على الملأ, لا تُخفى على أحد حتى أصبح الفنان المغربي شبيها بذاك البهلوان الحزين ذي الابتسامة العريضة و الدمعة المنسابة.
حينما حضرت حفلا تضامنيا نُظم على شرف المطربة نادية أيوب لدعمها في محنتها الصحية, تأملت طويلا تلك المرأة الجميلة و هي تصعد الخشبة بخطى خجولة و جسد مرتبك, وفكرت بحسرة بأن مثلها في كل أقطار العالم لا يعتلي المنصات إلا مكرما أو محتفى به تحت وابل من التصفيقات و الزغاريد و الورود, وليس للمطالبة بحق مغتصب اقتسمه السماسرة و أولئك القادمين من الشام و بلاد الأرز و بلاد النيل, وكأن الأطلس الشامخ لا يفخر بأصواته, وكأن وطننا عقيم لا ينجب المبدعين, وكأننا ساديون نحب أن نرى أبناءنا يتعذبون, وكأننا أغبياء سُدّج نفتح كنوزنا لكل زائر يحمل منها ما استطاب, ونحرم أبناءنا و نسحب الرزق من أفواههم بخسة ودناءة.
نحن البلد الوحيد الذي يُكرم الوافد و يحتقر المواطن.
ثم نطالب أبناءنا بالهوية و الوطنية و العطاء و الإبداع و الأنفة و العزة و الكرامة و المسؤولية.
لقد أسعدتني كثيرا مبادرة مدينة الداخلة بتكريم مهرجانها الموسيقي للمبدع عبد الهادي بلخياط, وسياستها المختلفة في التعامل مع الإبداع المغربي السينمائي و الغنائي بكافة اختلافاته, وما النجاح المبهر الذي حققه حفل بلخياط إلا تفنيدا لما يروجه سماسرة الفن و مصاصي دماء المبدعين من أن لا نجاح لأية تظاهرة فنية دون حضور أجنبي.
إنها مجرد بدعة و تضليل, لأن الوطنية الحقة تبدأ بالتربية على الاعتزاز بالانتماء و الافتخار بالبلد, برائحته و حاراته و طقوسه و فنه و أصوله و دينه و حضارته, لا بتحقير كل ما ينتمي له أو يدل عليه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق