لا مسرح في البلد
لقد كلّفتني قاعات المسرح بالوطن –رغم قلتها- أن أعلن إضرابها عن الاحتفال باليوم العالمي للمسرح, وأن أبلغ للناس تذمرها من واقعها المأساوي و الإهمال "النفسي و الجسدي" الذي تتعرض له منذ سنين, وكذلك التشهير المجاني و الاستغلال الموسمي الذي يطالها كل يوم احتفال بالعيد الوطني أو اليوم العالمي لأبي الفنون الذي أصبح للأسف "أحقر الفنون" ببلادنا لما يتعرض له هذا الفن الراقي من إهمال و فوضى و تجاهل و عبث, ليس عبث يونسكو أو بيكيت أو أرابال, بل عبث الوزارة الوصية على الثقافة و عبث بعض الفرق المشبوهة و تجار الرداءة و التفاهة.
أذكر منذ سنين خلت, حينما حضّرت محاضرة طويلة لأقنع والدي بالالتحاق بالمعهد العالي للمسرح بعد حصولي على شهادة الباكلوريا, ولأنني كنت مجتهدة و طموحة فقد لمحت الأسى و الخوف في عيني أبي الذي كان يعتقد أن اهتمامي بالفن و مواظبتي على حضور دروس الأستاذ رشيد فكاك في المسرح نزوة عابرة و بأنني "غادي ندير عقلي" بمجرد أن ينتهي "لعب الدراري", الآن و بعد تخرجي من المعهد بسنين و هجري للمسرح بسبب وضعه المحزن و طلبي اللجوء عند فنون أخرى, أتذكر نظرة والدي اليائسة و أنا أرْقب حال المسرح و المسرحيين و أفكر حقا أن من يمتهن المسرح يختار المجازفة, وبأن والدي كان يود إعفائي من الألم, في حين كنت أحلم بأن الإرادات ستُغير ملامح المسرح و محترفيه و هواته و كنت مؤمنة بأن الغد سيكون رائعا و مختلفا فاخترت أن أذهب برضاي إلى الخطر.
لكن لم يتغير شيء للأسف..
لازالت المسارح تئن و تبكي, ولازال ذاك الحوار التراجيدي المتكرر :
"أش كدير؟
ممثل..
مسكين..كيتهلاو فيكم شوية ولا والو..
و بالتالي أصبح المسرح و المسرحيون بالوطن عنوانا للدراما و التراجيديا و القسوة و المعاناة و الألم وهم يؤدون فصلا طويلا لم ينتهي على خشبة الحياة بعيدا عن ركح المسرح الغارق في الظلمة لا تنار أضواؤه إلا في المناسبات اضطراريا, يعيش غيبوبة مزرية لا أمل في صحوته و نهضته و عودته لمجده و هو في كنف مسؤولين يتعاقبون على خنقه ووأده تحضيرا لجنازته.
لذلك أعلن من خارج أسوار المسارح عن رفضها الاحتفال باليوم العالمي للمسرح لأكسر الصمت و التواطؤ, فلا مسرح في البلد..
وأذكر الأوصياء بأن المسارح تفتح أبوابها كل يوم, تتلألأ أضواؤها كل يوم, يتألق ممثلوها كل يوم, يُزهر إبداعها كل يوم..
أن عواصم العالم تفخر بمسارحها لذلك من حقها أن تحتفل بيومها العالمي لأنه امتداد لاحتفالات يومية , عروض ثقافية و نهضوية تساهم في تخليق الذوق و الرقي بالفكر و طرح الأسئلة الملتهبة, عروض و مهرجانات و محترفات دائمة و مستمرة للتكوين و الارتقاء.
أما مسارحنا القليلة و المتمركزة في جهة واحدة, فتستغلها المهرجانات التافهة في حين يغيب عنها المسرح و المسرحيون, تموت واقفة في صمت, تتآكل جدرانها و تحترق أضواؤها و تبلى ستائرها..
فكيف لها أن تحتفل؟ ولماذا؟ و بماذا؟
ما من أحد سيجبرها على الاحتفال, مسارحنا في حالة حداد..
في انتظار منقذ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق