كل هذا التاريخ الحافل, كل هاته الأمجاد..كل الإنجازات الخالدات, كل ما كُنّاه في زمن مضى أصبح مجرد صفحات في ذاكرة منسية يغطيها الغبار..كل العلماء و الفقهاء و الأدباء من رجالات و نساء هذا الوطن ممن تعاقبوا عليه من حضارات و سلاطين, كل المؤسسين الذين بنوا هذا البلد من شماله إلى صحرائه, و أغنوا حضارته و لغته و دينه و ثقافته و مثله و قيمه و هويته..
كل هذا المجد الخالد و الكنوز التي لا تقدر بثمن, من كتب و مخطوطات ومن معالم و مساجد و قصور و مباني و أسوار, ومن مدن شامخة بجمالها و ثرائها و تميزها, كل ما نملكه من شواطئ و جبال و سهول ووديان, أكرمنا الخالق ووهبنا بحرين و صحراء بسحر لا يوصف و غنى يثير جشع و حسد الطامعين..
كل هذا و ذاك, ونحمل جرحا في القلب يوجع بشدة أسفا على ما كناه بالأمس و ما أصبحناه الآن..
كنا قبلة للعلماء و الفقهاء و طلاب العلم, و أصبحنا قبلة للفجار و الفاسدين و طلاب اللذات العابرة.
كنا عنوان الشدة و العزة والعرض و الشرف, وأصبحنا نصدر بنات الهوى في وضح النهار, ونستقبلهن مطرودات في طائرات خاصة تلفظهن كالمجرمات دون أن نخجل أو ننتفض.
كنا نفخر بأبطالنا و رياضيينا العصاميين, من أهدونا رفرفة العلم في أرقى التظاهرات, من جعلونا نطرب لنشيدنا الوطني يُعزف في أعرق الملاعب, من جعلونا نفرح و ننتشي بطعم الفخر و الرضا..أما الآن فنحن مشتاقين للنصر, ننتظره بصبر و أمل و ألم, نتجرع الخيبة تلو الأخرى حتى مللنا من الخسارات المتلاحقة و أصبنا بالاستياء و عمّ العباد الشعور باليأس والضعف و القنوط و احتقار الذات و الانتماء.
كنا عنوانا للعِلم و الحضارة و التعايش و التسامح و السلام, ولحسن الضيافة و الجود و الكرم, وكنا مثالا للصمود و الشجاعة و النضال و الحرية في دفاعنا عن استقلالنا و دودنا عن وطننا و حفاظنا على قيمنا, و أصبحنا عنوانا للهجرة السرية و الدعارة و المخدرات و الجريمة و الرشوة و المحسوبية و التزوير و تراجع التعليم و البطالة..
كنا نبني صرنا نهدم..
كنا نتقدم صرنا نتراجع..
كنا بأنفة و كبرياء صرنا بلا كرامة..
عطب ما أصاب حواسنا, أو لعنة خفية تلاحقنا, أو شياطين الجن و الإنس تتربص بنا لتُذلّنا و تضعفنا و تشوه إنسانيتنا..
و إلا ماذا حلّ بنا؟ من دحرجنا نحو الهاوية؟ من سلبنا فرحتنا و نصرنا؟
من يتربص بحقنا في الكرامة و النجاح و السمو و الاعتزاز بالوطن و الهوية..
إنها أسئلة حارقة, تبدأ صغيرة فتكبر و تكبر و تكبر, إلى أن يضج الرأس بها, فتصاب بالأرق و تفقد شهية الحياة و ربما تقودك إلى الجنون..
إن كنت لا تزال عاقلا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق