الأربعاء، 4 يونيو 2008

يا باشا...

«اتفضلي يا باشا.. تحت أمرك يا باشا.. زي ما عايزة حضرتك يا باشا..»، هكذا كان يكلمني سائق المكتب الشاب منذ وصولي إلى دبي، بلهجته المصرية وأريحيته وغريزة حب الاستطلاع التي لا تفارقه والتي أعتبرها نقطة تشابه معظم السائقين خصوصا العرب.. بالدار البيضاء مثلا سائقو سيارات الأجرة معارفهم واسعة واختصاصاتهم مختلفة ومستوياتهم متباينة.. فبمجرد أن آخذ مكاني داخل السيارة حتى يبدأ سيل من الأسئلة والاستفسارات والمواقف القوية، والتي غالبا لا تقبل النقاش. يبدؤون عادة الحديث عن أعمالي ثم ينتقلون دائما إلى عمود «شوف تشوف».. بعدها إذا كان النقد حول حقوق الفنان والملكية الفكرية أعرف أن محدثي آت من خلف أسوار كلية الحقوق. أما إذا كان النقاش حول الحسابات والمبالغ التي تصرف على الأفلام وأرقام مبيعات «المساء»، فالسائق له دراية بعلوم الاقتصاد، وهكذا... ثرثرة حول تأخر المطر وغلاء المعيشة، حول أفلاطون وعمرو خالد والبيغ... شكاوى من كل شيء أسمعها دائما بصمت وأحفظها عن ظهر قلب. على أي، طلبت من السائق المصري أن لا يناديني «بالباشا»، خصوصا حينما فهمت أنها نوع من الاحترام التراتبي «الطبقي» الشبيه بالتراتبية العسكرية. وهذا ما لم أستسغه أبدا فقلت له: «نادني بشرى». بعد أخذ ورد واعتراض وتأسف عوضها مجبرا بكلمة «أستاذة». هنا بدبي داخل المكتب ناقشنا موضوع الرتب والألقاب من وجهات نظر مختلفة، كوننا نمثل جنسيات وثقافات متباينة. لكن أغلب الدول تعتمد على النظام التراتبي في تعامل الأفراد في ما بينهم خصوصا في العمل. وبالتالي تتصدر حديثهم الألقاب مثل «أستاذ» أو «دكتور». كما أن احترام الرتب والمناصب يعتبر سلوكا إجباريا ودليلا على الاحترام والاستقامة. في المغرب لا نعير لهذا الموضوع أهمية كبرى، كما أننا ساوينا الرتب والمهن ببعضها، إلا في بعض التخصصات حيث تراعى بقوة كالجيش والشرطة والطب. لكن عموما ألاحظ دائما، خصوصا حينما أقارن وضعنا بدول أخرى، أننا لا نعطي أدنى اعتبار للشواهد والرتب المهنية، وبالتالي يتساوى عندنا المدير بالسكرتير بالنائب بالسائق بالزبون. بالنسبة إلي لا توجد فروق بين الناس ولا أحبذ كثيرا التمجيد المبالغ فيه وعبارات الاحترام المصطنعة، ولا أشجع على خلق أبطال وهميين يتحكمون في مصير الناس ويضيقون عليهم الخناق ويستعبدوهم. لكنني لا أحتمل أيضا السلوك المعاكس. أي أن تعامل شخصيات كدت واجتهدت ونجحت دون القيمة الفعلية التي تستحق. إذ ليس من العيب إعطاء الناس حجمهم الحقيقي. ليس إلى درجة «التعظيم» لكن أيضا دون أن نبخسهم مستواهم الفكري والثقافي والمهني. في الواقع لست أدري أي الأسلوبين الأفضل، ولا أبحث عن الخطأ والصواب. هو موضوع أطرحه للنقاش. هنا مثلا بالمكتب، للمدير احترام لا يوصف، يناقشه الكل بأدب وتركيز واهتمام ومسؤولية. حضوره يخلق انضباطا واضحا، ليس خوفا بل تقديرا رغم أنه صحفي يعد برنامجا ككل المخرجين، لكنه احترام لمركزه واسمه وتاريخه. له كلمة تسمع ووجود معنوي هام داخل المكتب وخارجه. كما أنني لاحظت أن هناك الكثير من العمل والقليل من الثرثرة. وأوامر مهنية تنجز دون نقاش، ولا شعار غير العمل. نفس المكتب بالمغرب، تجد الكل يتحدث وجميع العاملين مدراء، وآخر متدرب يصرخ ويحتج، وعمل ضعيف مخجل. أنا أميل للعفوية في التعامل، لكنني في الآن ذاته أتخوف من أسلوبنا المنفتح «كثيرا»، والذي يؤثر سلبا على العلاقات المهنية ويضعف المردودية ويغرق السفن التي بدون ربان. وأعتقد أنني وجدت حلا وسطا، أعامل الكل باحترام وأسارع بالابتسامة وأصافح بالود، دون أن أخمن من يكون الشخص المقابل لي. أسعد لنجاحات الآخرين، لذلك لا يزعجني أن أناديهم بالألقاب التي يستحقون. لا أحرج الناس ولا أجرحهم أو أحتقرهم. أفخر بإنجازات أصدقائي وأدعمهم. آخر اهتماماتي أن يناديني أحدهم «يا باشا» أو يسارع ليفتح باب سيارة كي أركب. إلا إذا كان حبيبا. لا أغفر له إن لم يفعل...

ليست هناك تعليقات: