كان اسم أحد البرامج الذي عرض على شاشة القناة الأولى منذ زمن بعيد، كنت أهوى تتبعه لأشاهد قطارات رائعة بعربات مثيرة، تقدم خدمات خيالية ورحلات استثنائية، وقد تذكرت بعضها يوم الخميس الماضي وأنا أستقل قطارا ليس له مثيل أيضا..فقطارات المملكة ظلمت حينما أقصيت ولم تدرج قاطراتها ضمن حلقات البرنامج، إذ كان العالم سيتتبع كيف يقطع قطار حديث الطراز، بعض الكيلومترات في أكثر من ساعتين.. هذا القطار السريع المجهز بأحدث التقنيات والخدمات ما إن وطأت عجلاته أرض الوطن واشتم هواء البحر وأصيب بضربة شمس حتى أصبح أبطأ من سلحفاة، كما اختلت مواعيده وأصيبت أبواقه بالبكم وأصبح يحمل بداخله أكواما من الأجساد المتكدسة ويساهم دون أن يدري في احتجاز إنساني ويؤدي خدمة بدون مشاعر لمسافرين محترمين يصبحون أقرب للحيوانات منهم للبشر ..محطة الدار البيضاء الميناء كانت تعرف حركة غير عادية، مسافرون يجلسون على حقائبهم في غياب الكراسي، أطفال يركضون في كل مكان.. إنها نهاية العطلة وبداية موسم جديد، وبداية معاناة لا توصف، مع وسائل النقل التي تتنكر لزبنائها ساعة الحاجة..وصلت إلى الرباط، نفس حالة الطوارئ، ونفس الجلبة وأصوات تعلو احتجاجا على تأخر مواعيد القطارات والارتباك الحاصل في كل الاتجاهات.. كنت أسرع بخطاي لأغادر المحطة وأنا أتذكر ذاك الشاب المهذب من مصلحة الخدمات والذي طلب مني قبل أشهر رقم هاتفي كي تتصل بي المصلحة التابعة للمكتب الوطني للسكك الحديدية، كي أدلي برأيي بخصوص جودة الخدمات.. وفي الواقع أسهل طريقة للوقوف على هذه الخدمات الجليلة هي ترك المكاتب الهادئة المكيفة، والنزول إلى الحلبة، ومحطات القطار تصبح فعلا حلبات للصراع والصراخ وبكاء الأطفال وعبث بعض الأيادي الخفية بحقائب المسافرين.. إذ يضطر آلاف المسافرين للزج بأجسادهم داخل مقصورات ضيقة، غير مكيفة ومتسخة..بمجرد ما تصعد القطار، يحتقن وجهك حرا، وتختنق، تداعب أنفك روائح الرطوبة وبقايا الأكل، قد يمر بجانبك كائن صغير أحمر اللون وله أرجل.. لا تخبرك مكبرات الصوت إلا نادرا بالمحطات التي تصلها.. أما المراحيض فأخجل من الحديث عنها.. الطريف في الأمر أنه قبل أسابيع، وزعت فتاة أنيقة استمارات خاصة بركاب الدرجة الأولى، والخبر السعيد، أن المصلحة تنوي إصدار مجلة خاصة بركاب الدرجة الأولى طبعا، وتهتم برأيهم في شكلها ولونها ومحتوياتها.. ورغم أني أحبذ الفكرة وأشجعها إلا أنني أتخيل الركاب الذين لا يجدون مكانا للجلوس فيتكئون بيد على الكراسي أو المداخل وباليد الأخرى يمسكون مناديل ورقية يمسحون العرق المنساب من أجسادهم.. كيف لهم أن يحملوا المجلة ويتمتعوا بتصفحها؟وهناك مشهد يتكرر أمام عيني دائما، فالعديد من الركاب والذين يحملون تذاكر الدرجة الثانية، يأخذون لهم مقاعد في عربة الدرجة الأولى، فيضطر المراقب لإخبارهم بذلك ويطلب منهم تغيير المقصورة.. يقومون منزعجين، محتجين ويردون كلهم بدون استثناء «علاه أشنا هوا الفرق؟».. وهم فعلا محقون فلا يوجد أدنى اختلاف بين الدرجتين إلا ثمن التذكرة المضاعف.. ولا يحس الركاب أن هناك أي ترف يميز عربتي الدرجة الأولى عن الثانية.. إطلاقا.كان توتر شديد يعم المكان في طريق عودتي إلى البيضاء، صعدت القطار في السابعة مساء ووصلنا في التاسعة ليلا.. كان شاب يقف قريبا من مقعدي يسوي ربطة عنقه ويزمجر، كنت أغض بصري كي لا تصلني عدوى توتره، فأحيانا تصمد قدر ما تستطيع، وتنتهي بأن تصرخ، وتجتاحك الرغبة في تحطيم أي شيء..لم يحدث أن حطمت شيئا..تعود المغاربة على هذا الوضع المهين، أصبحوا يتقبلون الإهانة بصمت، سلاح مسؤولينا اللامبالاة وسلاحنا الصمت والخضوع والتقبل بفعل العادة..لقد وعدونا منذ سنين أن كل العادات السيئة ستتغير.. وبأنهم سيعاملوننا كمواطنين وليس كقطيع بقر أو أغنام أو ماعز أو حمير.. وصدقنا.هناك أكاذيب نحاول تصديقها رحمة لروحنا من العذاب.. نصمت ونهدأ وننسى بمجرد أن يصل قطارنا محطته المنشودة ولو بعد طول عناء وقهر واضطهاد.. لتتفرق حشود البشر كل وجهته، في انتظار عيد آخر أو موسم دخول مدرسي، أوصيف ساخن..في انتظار إهانات أخرى.. واحتجاز آخر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق